كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي اللّه عنهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قطع يد السارق من الرسغ، وما روي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي اللّه عنهما أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرّسغ، فكان هو المعوّل عليه.
وإذا عاد السارق إلى السرقة ثانيا قطعت رجله اليسرى باتفاق الحنفية والمالكية والشافعية لما رواه ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قطع الرجل بعد اليد، ولما روي عن علي وعمر أن كلا منهما كان يقطع يد السارق اليمنى، ولما عاد السارق إلى السرقة قطع كل منهما رجله اليسرى، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر على كل منهما أحد، فكان إجماعا.
ولما رواه الدار قطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله».
وإذا عاد إلى السرقة ثالثا وقف القطع عند الحنفية، فلا يقطع منه عضو بعد ذلك، ولكنّه يضمّن المسروق، ويعزّر بالحبس حتى تظهر توبته، لما روي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بسارق للمرة الثالثة فقال: لا أقطع، إن قطعت يده فبأيّ شيء يأكل، وبأي شيء يستنجي، وإن قطعت رجله فبأيّ شيء يمشي، إني لأستحيي من اللّه، ثم ضربه بخشبة وحبسه.
وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، وعند المالكية والشافعية:
تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعا تقطع رجله اليمنى.
وإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردّت إلى مالكها، وقطعت يد السارق ثم عاد إلى سرقتها مرّة ثانية فلا يقطع فيها عند الحنفية، وأما المالكية والشافعية فيقولون بالقطع، وهو رواية عن أبي يوسف لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: «فإن عاد فاقطعوه».
تمسّك الحنفية بما يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه».
فإنّ عدم ضمان المال يدلّ على أنّ المال أصبح غير معصوم في حق السارق بعد قطع يده، لأنّه لو كان معصوما مع قطع يده لوجب ضمانه، وحيث لم يجب الضمان تبيّن أن المال غير معصوم في حقه، فإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردت إلى المالك، فلا نزاع في أنّ العصمة عادت إليها، ولكن مع هذا لا زالت شبهة سقوط العصمة قائمة، فأشبهت المباح في حقه، فلا تقطع يده في سرقتها ثانية فإنّ الحدود تدرأ بالشبهات.
وإذا قطعت يد السارق، وكانت العين المسروقة قائمة وجب ردها إلى صاحبها، وإذا كانت هالكة أو مستهلكة فلا ضمان عليه عند الحنفية، وقال المالكية: يضمّنها إن كان موسرا، ولا شيء عليه إن كان معسرا.
وقال الشافعية: يضمنها مطلقا، أما ردها وهي قائمة فلما ورد من أنه عليه الصلاة السلام ردّ رداء صفوان إليه حين قطع يد السارق، وأما عدم الضمان عند عدمها فلقوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه».
وحجة القائلين بالضمان قياسه على سائر الأموال الواجبة، فإنّهم أجمعوا على رد العين المسروقة إذا كانت موجودة، وهو يستلزم أنها إذا لم تكن موجودة تكون في ضمانه، كما في سائر الأموال الواجبة، ترد بنفسها إن كانت قائمة، ويرد مثلها إن كانت هالكة، ويدلّ على ذلك أيضا ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».
وقوله: {جَزاءً} مفعول له، أو مصدر مؤكد لفعله الدال عليه قوله: فَاقْطَعُوا أي فجازوهما جزاء وقوله: بِما كَسَبا متعلق (بجزاء) على الإعراب الأول، وبقوله: فَاقْطَعُوا على الإعراب الثاني، و(ما) مصدرية، أي بسبب كسبهما، أو موصولة، أي بسبب الذي كسباه.
وقوله: {نَكالًا} مفعول له للإشعار بأنّ القطع للجزاء. والجزاء للنكال فيكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة.
والنكال: الإهانة والتحقير للمنع من العودة.
وقوله: {مِنَ اللَّهِ} متعلق بمحذوف صفة لنكالا.
{وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء من غير منازع ولا ممانع، وهو حَكِيمٌ في تشريعه، لم يشرع إلا ما فيه المصلحة، فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه بما وقع منه من السرقة، وأصلح في توبته بأن تكون التوبة عند الجمهور، وقيل: تسقطه، لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة، والعقوبة المذكورة هي القطع.
قال اللّه تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
السحت: الاستئصال من سحته إذا استأصله، ومنه قوله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} [طه: 61] أي يستأصلكم، ويطلق السّحت على الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان، لأنّه يستأصل فضيلة الإنسان وشرفه، ويستأصل جسده في النار في الآخرة، ويطلق أيضا على شدة الجوع، لأنّ من كان شديد الجوع يستأصل ما يصل إليه من الطّعام.
وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد أنّ السحت الرشوة، وأجر البغي وعسب الفحل، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية، ويرجع أصل ذلك كله إلى الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان ويخفيه.
ونزلت هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه، وعوّل عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السّحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعوا منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} وقيل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ للربا، كما قال تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161].
والرشوة قد تكون في الحكم، وهي محرمة على الراشي والمرتشي، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لعن الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما، لأنّ الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهة أنّه قبل الرشوة على أن يحكم بما يفترض عليه الحكم به، وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة، ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرّمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما روي عن الحسن قال: لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه، وكما روي عن جابر بن زيد والشعبي:
أنهما قالا: لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك في نظره فقال شعرا يتضمن التعجب من هذا التصرف فقال عليه الصلاة والسلام: «اقطعوا لسانه» فزادوه حتى رضي، فهذا نوع من الرشوة رخّص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه، يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه.
{فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}
قيل: نزلت هذه الآية في أمر خاص هو رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأراد اليهود الترخيص لهما، فأنكروا الرجم، وتحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فبحث عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وأطلعهم على آية الرجم، وبيّن لهم كذبهم وتحريفهم في كتاب اللّه، ثم رجم اليهوديين وقال: «اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها».
وإنما بحث عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة في كتبهم لأنّ الحدود الإسلامية لم تكن نزلت، فأقام الرجم على شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، وأما ما نزل حكمه في الشريعة الإسلامية فلا يجوز للمسلم المحكّم أن يحكم فيه بغير حكم الإسلام.
وقيل: نزلت في أمر خاص هو الدية بين بني قريظة وبني النضير، فكان بنو النضير يرون أنّ لهم شرفا يقضي بأن دية النضيري ضعف دية القرظي فغضب بنو قريظة، وتحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فحكم بينهم بالحق وجعل الدية سواء، وإذا لوحظ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أمكن القول بأنّ الآية عامة في كل من جاء إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم يتحاكم إليه.
وظاهر الآية أنّه عليه الصلاة والسلام مخيّر بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم، ولكنّ المتقدمين اختلفوا فقال النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبو بكر الأصم وأبو مسلم أنّ حكم التخيير الذي تدل الآية عليه ثابت غير منسوخ.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: إن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} وبعضهم وفق بين المختلفين بأنّ التخيير ورد في أهل العهد الذين ليسوا من أهل الذمة كبني قريظة والنضير، فلا يجب على الحاكم المسلم أن يجري عليهم أحكام المسلمين، وإن ترافعوا إليه كان مخيّرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} ورد في أهل الذمة الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وهذا هو أساس قول الحنفية:
إن أهل الذمة والمسلمين سواء في إجراء الأحكام الإسلامية عليهم، كعقود المعاملات والتجارات والمواريث والحدود، إلا أنهم لا يرجمون، لأنّهم غير محصنين، ويجوز لهم الاتجار في الخمر والخنزير دون المسلمين.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتابه إلى أهل نجران: «إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من اللّه ورسوله».
فجعلهم كالمسلمين في تحريم الربا عليهم.
وقال الشافعية: إنّ أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل اللّه، وأما المعاهدون فلا يجب عليه ذلك إذا تحاكموا إلينا، بل هو مخيّر بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم.
{وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} الغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين اللذين خيّر فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم، وتغيظوا منه، وربما يقصدونه بالأذى، فأخبره اللّه تعالى بأنه إن رأى الإعراض عنهم فلا بأس عليه، فإنّهم لا يضرونه بشيء أبدا، وقدم حال الإعراض للمسارعة إلى أنه لا ضرر عليه فيه، وإن كان مظنة الغيظ والحقد، ثم قال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي جاءت به الشرائع، أو جاء به الإسلام إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يحاربون المظالم.
وهاهنا أمور:
الأول: أنّ المحكّم ينفذ حكمه فيما حكّم فيه، فإنّ اليهود حكّموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ونفذ حكمه فيهم.
الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود، أما الآن وقد أكمل اللّه الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية، لا فرق بين المسلمين وغيرهم.
والثالث: قال الإمام الشافعي: التحكيم جائز، ولكن الحكم غير لازم، وإنما هو فتوى، فإن شاء المستفتي عمل بها أو تركها.
قال اللّه تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} قال النيسابوري: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} تعجيب من اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من تحكيمهم لوجوه:
منها عدولهم عن حكم كتابهم.
ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا.
ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه، وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد.
والواو في قوله: وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.
أما قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ، خبره عِنْدَهُمُ.
وإما أن يرتفع خبرا عنها، والتقدير وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ناطقة بحكم اللّه، فيكون عِنْدَهُمُ متعلقا بالخبر.
وإما ألا يكون له محل، ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره.
وأنّثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث.
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ} عطف على {يُحَكِّمُونَكَ} و(ثم) لتراخي الرتبة، أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم.
{وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون. اهـ.